وعد إلهي خالد: حفظ القرآن والسنة

وعد إلهي خالد: حفظ القرآن والسنة

شارك المقال مع أصدقائك

مقدمة: وعد إلهي خالد

في ليلة القدر المباركة، حدثت نقلة تاريخية في مسيرة الهداية الإلهية؛ إذ نزل القرآن الكريم من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم بدأ تنزيله مُنجَّماً على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم. في هذه اللحظة الفارقة، أعلن الله تعالى تعهده الأزلي بحفظ هذا الوحي من أي تحريف أو تبديل أو ضياع، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. هذا الوعد الإلهي يمثل الضمانة الربانية لاستمرار الهداية الإلهية نقية صافية إلى يوم القيامة. ولكن يبقى سؤال جوهري: ما المقصود بالذكر في هذه الآية الكريمة؟ هل يقتصر الحفظ على القرآن الكريم وحده، أم يمتد ليشمل السنة النبوية المطهرة؟ في هذا المقال، سنستعرض مفهوم الذكر في القرآن، ونبرهن على أن حفظ الله تعالى يشمل الوحيين معاً: القرآن والسنة، مدعمين ذلك بالأدلة النقلية والعقلية، ورداً على أبرز الشبهات المثارة حول هذا الموضوع.

مفهوم الذكر في القرآن الكريم: معاني ودلالات

الذكر في اللغة العربية يحمل معاني متعددة، منها: التذكر ضد النسيان، والتنبيه، والشرف، والدعاء، والكتاب الواضح. أما في الاصطلاح القرآني، فقد وردت كلمة "الذكر" ومشتقاتها في مواضع عديدة تحمل دلالات مختلفة، منها: القرآن الكريم: كما في قوله تعالى: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾. الوحي عامة: كما في قوله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. الشرف والرفعة: كما في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾. النبي محمد صلى الله عليه وسلم: كما في قوله: ﴿قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ٭ رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾.

المراد بالذكر في آية الحفظ

اختلف المفسرون في تحديد المراد بـ"الذكر" في آية الحفظ على قولين رئيسيين: 1. القول الأول: أن المراد به القرآن الكريم خاصة، وهو قول جمهور المفسرين. 2. القول الثاني: أن المراد به الوحي عامة، فيشمل القرآن والسنة. والراجح - والله أعلم - أن الآية نزلت في القرآن الكريم خاصة، ولكن هذا لا ينفي حفظ السنة، لأن حفظ القرآن يستلزم حفظ بيانه، والبيان النبوي هو السنة ذاتها.

الأدلة على شمول الحفظ للقرآن والسنة

الأدلة النقلية: 1. القرآن الكريم: قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، فبيان القرآن وهو السنة جزء من مقتضى حفظه. 2. الوحي النبوي: قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»، أي السنة. 3. الاقتران في الذكر: قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، والحكمة هي السنة عند جمهور المفسرين. الأدلة العقلية: 1. تكامل مصادر التشريع: لا يمكن فهم القرآن فهماً صحيحاً دون السنة، فحفظ أحدهما دون الآخر يُفقد التشريع كماله. 2. استمرار الهداية: الهداية الإلهية تقوم على الوحيين معاً، فحفظهما معاً ضمان لبقاء الهداية. 3. إقامة الحجة: الله أقام الحجة على الناس بالقرآن والسنة، فحفظهما معاً ضروري لبقاء الحجة قائمة.

الآيات الدالة على حفظ السنة النبوية

آيات الأمر بالاتباع والطاعة: مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، وقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾. وهذه الأوامر تستلزم حفظ ما يُتَّبع. آيات تفويض البيان والتشريع: مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، فالتفويض بالبيان يستلزم حفظ هذا البيان. آيات وصف النبي بالنور: مثل قوله تعالى: ﴿وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾، وقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ﴾، وهذا النور هو هدايته وسنته، التي لا يجوز أن تنطفئ.

الرد على الشبهات المثارة

الشبهة الأولى: الآية نصت على حفظ القرآن فقط. الرد: لفظ "الذكر" قد يشمل الوحي عامة. حفظ القرآن يستلزم حفظ بيانه النبوي. الأمر باتباع الرسول في القرآن يستلزم حفظ ما يُتَّبع. الشبهة الثانية: السنة دونت متأخرة. الرد: التدوين الفعلي بدأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. الحفظ الصدوري كان قوياً لدى الصحابة. التدوين الرسمي بدأ في عهد عمر بن عبد العزيز، وليس بعد قرون. الشبهة الثالثة: وجود أحاديث ضعيفة وموضوعة. الرد: وجودها لا ينافي الحفظ، بل يدل على وجود علم دقيق لتمييزها. علماء الحديث أسسوا علوم النقد لأجل التمحيص. وجود كتب خاصة بالموضوعات دليل على العناية الفائقة.

خاتمة: ضمانة ربانية متكاملة

يتضح من خلال الأدلة النقلية والعقلية أن حفظ الله تعالى للذكر يمتد ليشمل القرآن الكريم والسنة النبوية معاً، كضمانة ربانية متكاملة لاستمرار الهداية الإلهية. فالسنة النبوية هي البيان العملي للقرآن، والحكمة المكمِّلة للكتاب، والنور المستمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. إن إنكار حفظ السنة هو إساءة لفهم حكمة الله تعالى وتدبيره، ومخالفة لصريح القرآن وصحيح السنة وإجماع الأمة عبر العصور. فبقاء السنة محفوظة بحفظ الله هو تأكيد على عظمة هذا الدين وشموليته، وضمان لبقاء نور النبوة يشع في حياة الأمة إلى قيام الساعة.

تم التنسيق بواسطة أدوات محراب الكلمة

Abdennaceur
بواسطة : Abdennaceur
بسم الله الرحمن الرحيم مرحباً بكم في "محراب الكلمة"، مساحة للتأمل والتفكر في رحلة الإنسان وعلاقته بخالقه ونفسه والكون من حوله. أشارككم هنا خواطري التي تتنقل بين التأصيل والتفصيل، بين القواعد الكلية والتطبيقات الجزئية، مستلهماً من نور الوحي وهدي النبوة وتجارب الحياة. ستجدون في هذه المساحة مقالات فكرية تغوص في أعماق النفس البشرية، وخواطر أدبية تلامس شغاف القلوب، وروايات هادفة تحمل في طياتها دروساً وعبراً. أسعى من خلال هذه المدونة إلى تقديم محتوى يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين عمق الفكرة وجمال العبارة، بين الحكمة والقصة، بأسلوب يخاطب العقل والقلب معاً. أدعوكم لمشاركتي هذه الرحلة الفكرية والروحية، وأرحب بتعليقاتكم وإضافاتكم التي تثري المحتوى وتفتح آفاقاً جديدة للتفكر والتدبر. "في محراب الكلمة نلتقي، وبنور المعرفة نرتقي"
تعليقات