وصية خالدة على أرض عرفات
في مشهد مهيب خلال حجة الوداع، وقف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بين جموع الصحابة في عرفات، موجهاً إليهم كلماتٍ صارت منهاجاً للأمة: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي». هذه الوصية النبوية العظيمة ليست مجرد نصٍ تاريخي، بل هي الخريطة الكاملة للنجاة من الضلال، والميثاق الذي يربط بين الوحيين: القرآن المتلو، والسنة المبينة. فكيف بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلاقة التكاملية في سنته القولية والفعلية؟
أحاديث صريحة في كون السنة وحياً
لقد جاءت نصوص السنة نفسها مؤكدة على مصدرها الإلهي، وعدم انفصالها عن الوحي: القرآن ومثله معه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» (رواه أبو داود والترمذي). فالسنة هي المثل المقابل للقرآن في المصدر والحجية. نزول جبريل بالسنة: قال التابعي حسان بن عطية: «كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن» (رواه الدارمي). عصمة القول النبوي: قال صلى الله عليه وسلم: «إني لا أقول إلا حقاً» (رواه البخاري)، مما يؤكد أن كلامه في التشريع وحيٌ معصوم.
تحذيرات من رد السنة
حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من موقف من يردون سنته بحجة اقتصارهم على القرآن، فقال: «لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري... فيقول: ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (رواه أبو داود). وهذا إعلان صريح أن السنة مصدر تشريعي مستقل.
التمسك بالسنّة عند الاختلاف
في وصيته الجامعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» (رواه أبو داود والترمذي). وجعل طاعته مساوقة لدخول الجنة: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» (رواه البخاري).
سنّة تشرع ما لم ينص عليه القرآن
بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة تأتي بأحكام تفصيلية لم ترد في القرآن، كما في قوله في الحديث السابق: «ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع». فهي مبينة ومستقلة في التشريع.
حديث "تركت فيكم ما إن تمسكتم به"
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الكتاب والسنة في سبب واحد للنجاة، مما يعني: 1. التلازم في الذكر دليل على التلازم في العمل. 2. النجاة من الضلال مشروطة بالتمسك بهما معاً. 3. وصفها بالثقلين في روايات أخرى يدل على عظم مكانتهما.
حديث "أوتيت القرآن ومثله معه"
هذا الحديث يقطع الشبهات حول استقلالية السنة: 1. المساواة في المصدر (الوحي). 2. التحذير من الاقتصار على القرآن. 3. التصريح بأن تحريم النبي كتحريم الله.
الوصية في المواسم العظيمة
كرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوصية في حجة الوداع، أكبر تجمع للمسلمين في حياته، مما يدل على أنها وصية عامة للأمة إلى قيام الساعة.
الوصية بالتبليغ والحفظ
حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على نشر سنته فقال: «بلغوا عني ولو آية» (رواه البخاري)، ووعد حاملها بالفضل العظيم: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها» (رواه الترمذي).
شبهة ضعف حديث "تركت فيكم"
يرد على هذه الشبهة بأن: الحديث ورد من طرق متعددة تقويه. معناه متواتر قطعاً في الكتاب والسنة. تلقته الأمة بالقبول والعمل عبر القرون.
شبهة تفسير "مثله معه"
ادّعى البعض أن "مثله معه" يعني القرآن نفسه، والرد: سياق الحديث يذكر أحكاماً سننية لم ترد في القرآن. فهم الصحابة والتابعين كان واضحاً بأنها السنة. القول بغير ذلك يخالف النصوص القرآنية الآمرة بطاعة الرسول.
طريق النجاة في التمسك بالوحيين
الأدلة النبوية التي سقناها تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن السنة النبوية هي الوجه التطبيقي الحي للقرآن، والوحي الثاني الذي لا ينفك عن الأول. لقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم للأمة طريقاً واضحاً: التمسك بالقرآن وفهمه كما فهمه هو وصحابته، والتمسك بسنته تطبيقاً واتباعاً. فهما كجناحي طائر لا يصلح الطيران إلا بهما معاً. ومن هنا كانت حماية السنة ونشرها ودراستها من أعظم القربات، لأنها حفظ لطريق النجاة الذي تركه لنا النبي صلى الله عليه وسلم. فبقاء الأمة على الصراط المستقيم مرهون بتمسكها بهذين النورين: كتاب الله المنزل، وسنة نبيه المبينة.