الفصل الثالث: التمكين - الثمار والعطاء
"حين تُلقي الشجرة ظِلّها على الأرض، لا تكون قد بلغت النهاية، بل ذروة معناها. التمكين ليس امتلاك القوة، بل هو أن تصير قناة يمر عبرها النور إلى الآخرين."
ذروة النور: حين تُلقي الشجرة ظِلّها على الأرض
هذه هي لحظة التّمكين: حين تصبح البذرة شجرة تلقّح الريح أغصانَها، ويخرج النّور من حِجر الخفاء ليكون مشعلًا للسالكين. التّمكين ليس نهاية الرّحلة، بل هو وهج البدايات الجديدة. فكل ثمرة تحمل في أحشائِها بذرة تقول للأرض: «ستمتلئ بالحياة مرة أخرى!».
تأمل هذه اللحظة المقدسة في دورة الحياة: لحظة العطاء. البذرة التي دُفنت في التراب، ثم صارت شتلة هشة، ثم نمت وتجذرت وارتفعت، ها هي الآن تؤتي ثمارها. الشجرة لا تأكل ثمارها، بل تقدمها للآخرين، تهديها للطيور والحيوانات والإنسان. وهكذا الإنسان في مرحلة التمكين: يصبح مصدر نور لغيره بعد أن كان يبحث عن النور. يصير معلمًا بعد أن كان متعلمًا، ومرشدًا بعد أن كان مسترشدًا، ومانحًا بعد أن كان متلقيًا.
السيرة النبوية: فتح مكة... لحظة الوجود الكامل
لم يكن فتح مكة مجرّد انتصار عسكري، بل كان تتويجًا لرحلة التّخزين والتّكوين. في تلك اللحظة التاريخية: مكة التي أخرجته، تفتح له أبوابها. والقبائل التي حاربته، تنضم إلى دينه أفواجًا. والكعبة التي حِيل بينه وبينها، يطوف حولها ويطهرها من الأصنام.
في هذا اليوم العظيم، دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يقرأ سورة الفتح، ورأسه متطأطئ تواضعًا لله حتى إن لحيته لتكاد تمس مقدمة رحله. كان فتح مكة درسًا عظيمًا في التمكين بعد الاستضعاف. وعندما اجتمع أهل مكة عند الكعبة، وقف بينهم وقال كلمته الخالدة: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: "خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم". قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". موقف يجسد أعلى مراتب التمكين: القدرة على العفو عند المقدرة.
التمكين في الطبيعة: الثمرة التي تُعلِم الشجرة
أُنظر إلى الشجرة المُلتَفّة بالثِمار... لا تبكي على ما أعطَت، بل تفتخِر بأنّها صيّرَت ذاتَها وِعاءً للحياة. هكذا التّمكين:
أن تصير الجذور الخفيّة سببًا في إشباع الجِياع.
أن تحمل الغصان العالية أعشاشًا للطّيور، وظلًا للتَعبانين.
أن تكون الحياة دائرة... تبدأ منك وتعود إليك.
تأمل النخلة وهي تقدم رطبها: كم من سنين صبرت في التراب؟ كم شهور تحملت حرارة الشمس وبرودة الشتاء؟ لتقدم لك اليوم ثمارها الحلوة. ثم تأمل كيف أن كل تمرة تحمل في داخلها نواة، هي بذرة لنخلة جديدة. هكذا يستمر دوران عجلة الحياة. وانظر إلى الغيمة المحملة بالماء: ترتفع من البحر، تتكثف في السماء، ثم تعود لتسقي الأرض. دائرة كاملة من العطاء المستمر. الماء الذي يسقي الأرض اليوم هو نفسه الذي شربه آدم ونوح وإبراهيم، يتجدد في دورة لا تنتهي.
حوار داخلي: صوت التمكين الواثق
النفس الخائفة: "لقد وصلت إلى مكانة مرموقة بعد تعب طويل... أخشى أن أفقد ما حققته إذا شاركته مع الآخرين."
النفس المتمكنة: "الشمعة التي توقد شمعة أخرى لا تنقص من نورها شيئًا، بل تزيد المكان نورًا. وكذلك العلم والخير والحكمة تزداد بالإنفاق."
النفس الخائفة: "لكن ماذا لو لم يقدّر الناس ما أقدمه لهم؟"
النفس المتمكنة: "الشجرة تعطي ثمارها للجميع، للشاكر وغير الشاكر. هي تعطي لأن العطاء طبيعتها، لا لأنها تنتظر الشكر. وأنت كذلك، أعطِ لأن العطاء يملأ روحك بالسعادة، لا لأنك تنتظر مقابلًا."
النفس الخائفة: "وماذا عندما ينتهي عطائي؟"
النفس المتمكنة: "العطاء الحقيقي لا ينتهي، بل يتجدد. كلما أعطيت، انفتحت لك أبواب عطاء جديدة. هذه هي دائرة النور التي لا تنتهي."
تطبيقات عملية: كيف تصبح منبعًا للعطاء؟
التّمكين ليس حكاية الأقوياء فقط، بل هو قصّة كل من آمن بأن العطور تنبع من شجرة القلب:
المعلِم لا يبني بالطُوب، بل بالكلِمات الّتي تُنتج أجيالًا تحمل رُؤاه. المعلم المتمكن هو من يصنع معلمين جُددًا، ينقلون نوره إلى أجيال قادمة. هو كالشمعة التي تشعل آلاف الشموع قبل أن تنطفئ.
الطّبيب لا يُنقذ بالمِشرط فحسب، بل بالرّحمة التي تجعل الجُرح سِجلًا لأمل. الطبيب المتمكن لا يكتفي بعلاج المرضى، بل يدرّب أطباءً جُددًا، ويبحث عن علاجات جديدة، ويساهم في تطوير نظام صحي يخدم المجتمع.
الأم تملك سلطة ليست فوق الأرض... إنّها في القُبلة التي تضعُها على جبين ولدِها قبل أن يخرج إلى العالم. الأم المتمكنة تزرع في أبنائها قيم العطاء والمحبة والإيثار، لتستمر سلسلة الخير من جيل إلى جيل.
القائد لا يكتفي بصنع النجاح لنفسه، بل يبني قادة آخرين يواصلون المسيرة من بعده. يمكّن فريقه، ينمي مهاراتهم، يمنحهم الفرص، يثق بقدراتهم، ويفسح لهم المجال ليبدعوا.
دروس من رحلة التمكين
العطاء يسبق الأخذ: في مرحلة التمكين، تبدأ بالسؤال: ماذا يمكنني أن أقدم؟ بدلًا من السؤال: ماذا يمكنني أن آخذ؟
القوة الحقيقية في الرحمة: التمكين ليس للسيطرة، بل للرحمة والعطاء. أقوى الناس هم الأكثر رحمة وعطفًا، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة.
استمرارية العطاء: العطاء الحقيقي يخلق دائرة لا تنتهي. كل من تعلم منك سيعلم غيره، وكل من ساعدته سيساعد آخرين.
الأثر يتجاوز العمر: في مرحلة التمكين، تزرع ما سيثمر بعد رحيلك. أثرك سيبقى في تلميذك، في كتبك، في مشاريعك، في قيمك التي زرعتها.
التواضع مع القوة: كلما زاد تمكينك، زاد تواضعك. التمكين الحقيقي يجعلك تدرك أن ما وصلت إليه ليس بسببك وحدك، بل بفضل الله ثم بمساعدة الكثيرين لك.
خاتمة الفصل: النُور الذي لا ينتهي
لا تخف أن تُعطي كل ما فيك... فالبِحار لا تجف وهي تُعطي، والشّمس لا تخبو وهي تُضيء. التّمكين هو أن تكون كالنّهر، تأخذ قطرة من السّماء، ثم تردُها إلى البحر بحرًا. في قصة الخليفة عمر بن عبد العزيز درس عظيم في التمكين: كان أمير المؤمنين، بيده خزائن الأرض، لكنه عاش زاهدًا وقد أغنى رعيته حتى لم يجدوا فقيرًا يعطونه الزكاة. قال عنه الإمام الزهري: "كنا نعد المعروف صدقة على المساكين، حتى ولي عمر بن عبد العزيز، فجعل المساكين يتصدقون علينا!". وفي قصة الصحابي عثمان بن عفان، الذي اشترى بئر رومة بماله الخاص وجعلها وقفًا للمسلمين، درس آخر في التمكين: حوّل ثروته إلى مورد مستمر للخير، ينتفع به الناس قرونًا بعد رحيله. وها نحن نذكره بالخير بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا. هكذا التمكين، يتجاوز الزمان والمكان، ويصنع أثرًا لا ينتهي.
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ﴾
تأمل في هذه الآية... كل ما تقدمه للآخرين، تجده مخزونًا لك عند الله. ليس فقط في الآخرة، بل حتى في الدنيا: في محبة الناس لك، في دعواتهم لك، في استمرار أثرك بعد رحيلك.
تمرين عملي:
قبل أن تنتقل إلى الفصل التالي، خذ ورقة واكتب عليها:
ما هي المجالات التي أشعر أني وصلت فيها إلى مرحلة التمكين؟
من هم الأشخاص الذين يمكنني نقل خبرتي ومعرفتي إليهم؟
ما هو المشروع أو المبادرة التي يمكنني إطلاقها لأشارك ما تعلمته مع الآخرين؟
احتفظ بهذه الورقة، فسنعود إليها في رحلتنا مع دائرة النور.