مسار العقل والهمّة ومدار القلب والمنة، تحليل مقارن للمعرفة بين الجهد والمنّة في لقاء ابن كُلاّب والجنيد

مسار العقل ومدار القلب: لقاء ابن كُلاّب والجنيد

1. مقدمة: نقطة تلاقي بحرين من المعرفة

في تاريخ الفكر الإسلامي، تبرز لحظات فارقة تكشف عن التفاعل الخلّاق بين تياراته الكبرى. ومن أبرز هذه اللحظات، اللقاء التاريخي الذي جمع بين عبد الله بن سعيد بن كُلاّب، المتكلم الفذّ وممثل صرح المعرفة العقلية المبنية على التحصيل، والإمام الجنيد، سيد الطائفة الصوفية وقطب المعرفة الذوقية المتدفقة من فيض إلهي. لم يكن هذا اللقاء مجرد مناظرة عابرة، بل كان بمثابة مرآة صافية عكست طبيعتين متمايزتين للمعرفة، كشفت عن الحدود الفاصلة بين ما يُكتسب بالجهد البشري وما يُوهب بالمنّة الربانية. يستهدف هذا التحليل، بالاعتماد الحصري على الرواية التي ذكرها مؤرخون كابن قاضي شهبة، استكشاف هذه الثنائية العميقة من خلال مفهومي "المسار" كجهد إنساني صاعد، و"المدار" كعطاء إلهي مُحيط. ومن هنا، نبدأ رحلتنا بتفحص النموذج المعرفي الأول، وهو مسار التحصيل بالهمة.

2. مسار التحصيل بالهمة: ابن كُلاّب نموذجاً للمعرفة المكتسبة

يمثل مفهوم "المسار" في سياق هذا اللقاء، الجهد العقلي المنظم، والسعي الدؤوب، والتحصيل المنهجي للمعرفة. إنه الطريق الذي يسلكه العقل البشري بهمّته وقدرته، فيرتقي "درجة بعد درجة" في سلّم العلوم، بانياً صروحاً فكرية شامخة كما هو الحال في علم الكلام الذي برع فيه ابن كُلاّب. هذا المسار قوامه الجهد والمثابرة، وأدواته الحفظ والضبط والتقنين، وغايته الإحاطة المعرفية التامة بالموضوع المدروس.

وتُجسد شخصية ابن كُلاّب في الرواية هذا المنهج خير تجسيد. فهو "المتكلم الفذّ" الذي بلغ قمة الإتقان في مجاله، وقطع "في المستوى العقلي شوطاً بعيداً". لكن هذا المسار، على عظمة مكتسباته، يكشف عن حدوده حين يواجه معرفة من طبيعة مختلفة. فبعد أن استمع إلى قول الجنيد، طلب منه أن يعيده، فأعاده الجنيد بعبارة مغايرة. هنا تتجلى الفجوة المنهجية، فابن كُلاّب، الذي اعتاد على المعارف الثابتة، يقرّ بعجزه قائلاً: "هذا شيء لم أحفظه". هذه العبارة ليست مجرد إقرار بضعف الذاكرة، بل هي اعتراف ضمني بأن منهجه بأكمله قائم على استيعاب معارف مُعلّبة ومُقنّنة.

إن طلبه الثاني للإعادة لم يكن مجرد رغبة في الفهم، بل كان محاولة حثيثة من العقل المنظِّم لإخضاع هذا الفيض المعرفي لمنطق التحصيل الذي اعتاده، ولقولبته وفق منهجه القائم على الضبط والحفظ. لكنه فشل، لأن ما كان يطلبه هو تجميد نهرٍ جارٍ.

وهكذا، يتضح أن مسار ابن كُلاّب هو مسار الصعود على سُلّم المعرفة بالجهد الشخصي، وهو مسار جليل ومهم، ولكنه سيصطدم بحقيقة وجود مستوى آخر من المعرفة لا تُسلك إليه الدروب بنفس الطريقة.

3. مدار التوصيل بالمنّة: الجنيد تجسيداً للمعرفة الموهوبة

على النقيض تماماً من "المسار"، يأتي مفهوم "المدار" ليقدم نموذجاً معرفياً مختلفاً جذرياً. فالمدار لا يُمثل طريقاً أفقياً يُقطع بالجهد، بل يمثل علاقة عمودية واتصالاً مباشراً بمصدر الحقيقة. إنه لا يقوم على "التحصيل" الذاتي بل على "التوصيل" الرباني، حيث يصبح قلب العارف مركزاً تدور حوله المعاني وتتدفق عليه الأنوار كعطاء ومنّة من الله. هذا النموذج لا يهدف إلى اكتناز المعرفة، بل إلى أن يكون قناة صافية لمرورها وفيضانها.

ويظهر الإمام الجنيد، الذي عُرف بلقب "سيد الطائفة"، في هذه الرواية باعتباره محور هذا المدار، وتجسيداً حياً للمعرفة الموهوبة. فمعرفته ليست نتاج استذكار لمعلومات محفوظة، بل هي عطاء متجدد ولحظي. ويتجلى ذلك حين "يغترف من محتوى رباني يتدفق على قلبه". فعندما طُلب منه الإعادة للمرة الأولى، جاء بعبارة جديدة، وعندما طُلب منه ذلك للمرة الثانية، جاء بعبارة ثالثة، "كأنما ينهل من بحر لا ينضب". هذا التصوير يوضح أن الجنيد ليس مالكاً للمعرفة، بل هو مستقبِل لها، وأن قلبه أصبح مهبطاً لفيض لا ينقطع.

وتأتي مقولة الجنيد الحاسمة لتكشف جوهر هذا المدار: "إن كنت أُجريه فأنا أمليه عليك". هذه الجملة ليست مجرد بيان في التواضع، بل هي برهان منطقي دقيق. فأداة الشرط "إن" في اللغة العربية كثيراً ما تفيد الشك في وقوع الشرط أو استحالته. وبهذا، يبني الجنيد حجة مفادها: "على فرض أنني مصدر هذا الكلام ومُجريه من ذاتي -وهو فرض مستبعد- لكنت قادراً على إملائه عليك حرفياً". وبما أن واقع الحال -أي عدم قدرته على التكرار الحرفي- يُبطل جواب الشرط (الإملاء)، فإن هذا يُبطل بالضرورة مقدمة الشرط (كونه هو المصدر). إنه ينفي فاعليته الذاتية ليُثبت أن المعرفة فيض إلهي متجدد. وهنا يتجلى الفارق النوعي الذي أشار إليه التعليق في النص بين "صعود السلالم" الذي يمثل جهد ابن كُلاّب، و"فتح الأبواب" الذي يمثل فضل الله على الجنيد.

4. تحليل المواجهة: تجلّي الفرق بين المسار والمدار

لم يكن الحوار بين ابن كُلاّب والجنيد مجرد مناظرة كلامية، بل كان لحظة كاشفة تجلّت فيها الفروق الجوهرية بين منهجين في المعرفة بشكل عملي ومباشر. ففي ساحة هذا اللقاء، اصطدم منطق العقل المُحصِّل ببداهة القلب المتصل، مما أدى إلى انكشاف حدود الأول أمام فيض الثاني. ويمكن تلخيص الفروق الرئيسية التي أبرزتها هذه المواجهة في النقاط التالية:

  • مصدر المعرفة: عند ابن كُلاّب، المصدر هو العقل والجهد البشري أو "التحصيل". أما عند الجنيد، فالمصدر هو القلب والفيض الإلهي أو "التوصيل".
  • طبيعة المعرفة: معرفة ابن كُلاّب محفوظة ومُقنّنة، أشبه بـ"عبارات مُعلّبة". بينما معرفة الجنيد حية، متدفقة، ومتجددة، كأنها "بحر لا ينضب".
  • آلية العمل: مسار ابن كُلاّب هو "الصعود التدريجي" على درجات العلم. ومدار الجنيد هو "الفتح المباشر" للأبواب الإلهية.
  • نتيجة المواجهة: انتهت المواجهة بإقرار ابن كُلاّب بالعجز عن الحفظ والإحاطة، بينما استمر الجنيد في التدفق المستمر للمعنى بعبارات مختلفة.

إن لحظة التحول الحاسمة في هذا اللقاء هي حين طلب ابن كُلاّب من الجنيد أن يملي عليه قوله: "ولكن أمله عليّ"، متبوعاً بإقراره الصريح بالعجز: "ليس يمكنني حفظ ما تقول". لا يجب أن يُقرأ هذا الاعتراف كهزيمة شخصية لمتكلم أمام صوفي، بل هو إدراك عميق من العقل لحدوده، وتسليم منه بوجود مستوى أعلى من الحقيقة لا يمكن الوصول إليه بنفس الأدوات. لقد أدرك ابن كُلاّب أن مساره العقلي، على أهميته ورفعته، يقف عاجزاً أمام بحر المعرفة اللدنية التي لا تُحفظ ولا تُقنّن، بل تُعاش وتُذاق. وبهذا التسليم، أعادت هذه المواجهة ترتيب العلاقة بين العلم المكتسب والمعرفة الموهوبة، ووضعت كلاً منهما في مرتبته الصحيحة.

5. خاتمة: التكامل الضروري بين الجهد والمنّة

يكشف التحليل المقارن للقاء ابن كُلاّب والجنيد عن تمييز جوهري يمكن إيجازه في مفارقة بليغة: "المسار" هو سعي العقل للإحاطة بالحقيقة، و"المدار" هو إحاطة الحقيقة بالقلب. الأول يمثل طريقاً أفقياً يعتمد على التحصيل والجهد البشري، بينما الثاني يمثل علاقة عمودية قائمة على التوصيل والمنّة الإلهية. ومع ذلك، فإن النتيجة النهائية لهذا اللقاء لا تدعو إلى إلغاء أحد الطريقين لصالح الآخر، بل إلى فهم العلاقة التكاملية بينهما.

إن التحصيل بالهمة مهما علا، يظل في حاجة إلى التوصيل بالمنّة.

هذه الجملة لا تلغي قيمة السعي العقلي أو الجهد الفكري الذي يمثله ابن كُلاّب، بل تضعه في مرتبته الصحيحة. فالجهد البشري ضروري، لكنه ليس كافياً. إنه يمثل تهيئة الأرض وإعداد الوعاء، لكن الغيث الذي يملؤه ويُحييه لا يأتي إلا من السماء. فكما أكد الجنيد نفسه على أهمية الأساس الشرعي بقوله: "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة"، فإن هذا الأساس هو جزء من مسار التحصيل الذي لا غنى عنه.

في نهاية المطاف، لا يكمن الكمال المعرفي والروحي في الاختيار بين المسار والمدار، بل في إدراك أن المسار هو التهيئة الضرورية والاستعداد البشري لاستقبال عطايا المدار. فالسالك بالهمة والجهد لا يصل إلى غايته القصوى، ولا يذوق حلاوة المعرفة الحقة، إلا إذا تكرم عليه واهب الفضل ففُتحت له أبواب المنّة، وانتقل من جهد التحصيل إلى نعمة التوصيل.

Abdennaceur
بواسطة : Abdennaceur
بسم الله الرحمن الرحيم مرحباً بكم في "محراب الكلمة"، مساحة للتأمل والتفكر في رحلة الإنسان وعلاقته بخالقه ونفسه والكون من حوله. أشارككم هنا خواطري التي تتنقل بين التأصيل والتفصيل، بين القواعد الكلية والتطبيقات الجزئية، مستلهماً من نور الوحي وهدي النبوة وتجارب الحياة. ستجدون في هذه المساحة مقالات فكرية تغوص في أعماق النفس البشرية، وخواطر أدبية تلامس شغاف القلوب، وروايات هادفة تحمل في طياتها دروساً وعبراً. أسعى من خلال هذه المدونة إلى تقديم محتوى يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين عمق الفكرة وجمال العبارة، بين الحكمة والقصة، بأسلوب يخاطب العقل والقلب معاً. أدعوكم لمشاركتي هذه الرحلة الفكرية والروحية، وأرحب بتعليقاتكم وإضافاتكم التي تثري المحتوى وتفتح آفاقاً جديدة للتفكر والتدبر. "في محراب الكلمة نلتقي، وبنور المعرفة نرتقي"
تعليقات