بين المسار والمدار: لقاء ابن كُلاّب والجنيد وسرّ المعرفة في الفكر الإسلامي


بين المسار والمدار: لقاء ابن كُلاّب والجنيد وسرّ المعرفة في الفكر الإسلامي

شارك المقال مع أصدقائك

نقطة تلاقي بحرين: مقدمة في لقاء ابن كُلاّب والجنيد وأصناف المعرفة

في صفحات التاريخ الزاخر للفكر الإسلامي، تلوح لحظات تاريخية فارقة لا تزال أصداؤها تتردد حتى يومنا هذا، كاشفة عن تفاعلات غنية بين تياراته المعرفية العميقة. ولعل من أبرز هذه اللحظات التي تستحق التأمل العميق، اللقاء الفريد الذي جمع بين عبد الله بن سعيد بن كُلاّب، المتكلم الفذّ الذي مثّل صرح المعرفة العقلية المبنية على التحصيل والجهد البشري، وبين الإمام الجنيد، سيد الطائفة الصوفية وقطب المعرفة الذوقية المتدفقة من فيض إلهي ومنّة ربانية. لم يكن هذا اللقاء مجرد مناظرة كلامية عابرة، بل كان أشبه بمرآة صافية عكست بجلاء طبيعتين متمايزتين ومختلفين في تلقي الحقيقة، كشفت عن الحدود الدقيقة الفاصلة بين ما يُكتسب بالكدّ والسعي الإنساني وما يُوهب كعطاء إلهي خالص. يستهدف هذا التحليل في محراب الكلمة، وبالاعتماد على الروايات التاريخية الموثوقة، استكشاف هذه الثنائية العميقة التي تتجسد في مفهومي "المسار" الذي يرمز إلى الجهد الإنساني الصاعد في طلب العلم، و"المدار" الذي يشير إلى العطاء الإلهي المُحيط بالقلب. من هنا، نبدأ رحلتنا الفكرية بتفحص النموذج المعرفي الأول، وهو مسار التحصيل بالهمة الذي يمثل العقل.

مسار التحصيل بالهمة: ابن كُلاّب وتجلي المعرفة العقلية المكتسبة

يمثل مفهوم "المسار" في سياق هذا التحليل، جوهر الجهد العقلي المنظم، والسعي الدؤوب والمثابر، والتحصيل المنهجي للعلوم. إنه الطريق الشاق والرفيع الذي يسلكه العقل البشري بهمّته وقدرته الفائقة، فيرتقي "درجة بعد درجة" على سلّم العلوم والمعارف، بانياً بذلك صروحاً فكرية شامخة ومحكمة، كما هو الحال في علم الكلام الذي بلغ فيه ابن كُلاّب شأناً عظيماً. هذا المسار قوامه الجهد والمثابرة المتواصلة، وأدواته الدقيقة هي الحفظ والإتقان والضبط والتقنين للمعلومات، وغايته هي الإحاطة المعرفية التامة بالموضوع المدروس. تتجسد شخصية ابن كُلاّب في الرواية التاريخية لهذا اللقاء خير تجسيد لهذا المنهج المعرفي الراسخ. فهو "المتكلم الفذّ" الذي بلغ أوج الإتقان في مجال تخصصه، وقطع "في المستوى العقلي شوطاً بعيداً" يثير الإعجاب. لكن هذا المسار، على عظمة مكتسباته الفكرية وقيمتها، يكشف عن حدوده الجلية حين يواجه معرفة من طبيعة مختلفة تماماً. فبعد أن استمع إلى القول الغزير للإمام الجنيد، طلب منه أن يعيده مرة أخرى، فأعاده الجنيد بعبارة مغايرة تماماً عن الأولى. هنا تتجلى الفجوة المنهجية العميقة بين نمطين من المعرفة؛ فابن كُلاّب، الذي اعتاد على المعارف الثابتة والمُقنّنة، يقرّ بعجزه الصريح قائلاً: "هذا شيء لم أحفظه". هذه العبارة ليست مجرد إقرار بضعف الذاكرة، بل هي اعتراف ضمني بأن منهجه بأكمله قائم على استيعاب معارف مُعلّبة ومُصاغة ضمن قوالب محددة. إن طلبه الثاني للإعادة لم يكن مجرد رغبة في الفهم العميق، بل كان محاولة حثيثة من العقل المنظِّم لإخضاع هذا الفيض المعرفي المتجدد لمنطق التحصيل الذي اعتاده، ولقولبته وفق منهجه القائم على الضبط والحفظ، لكنه فشل في ذلك، لأنه كان يحاول تجميد نهرٍ جارٍ متدفق. وهكذا، يتضح أن مسار ابن كُلاّب هو مسار الصعود على سُلّم المعرفة بالجهد الشخصي، وهو مسار جليل ومهم للغاية في بناء الفكر الإسلامي، ولكنه سيصطدم حتماً بحقيقة وجود مستوى آخر من المعرفة لا تُسلك إليه الدروب بنفس الطريقة المألوفة للعقل.

مدار التوصيل بالمنّة: الجنيد وتجلي المعرفة الذوقية الموهوبة

على النقيض التام من مفهوم "المسار" الذي يمثل الجهد البشري، يأتي مفهوم "المدار" ليقدم نموذجاً معرفياً مختلفاً جذرياً في الفكر الإسلامي. فالمدار لا يُمثل طريقاً أفقياً يُقطع بالجهد البشري، بل يمثل علاقة عمودية روحانية واتصالاً مباشراً بمصدر الحقيقة الإلهية. إنه لا يقوم على "التحصيل" الذاتي للمعلومات، بل على "التوصيل" الرباني المباشر، حيث يصبح قلب العارف مركزاً تدور حوله المعاني العميقة وتتدفق عليه الأنوار الإلهية كعطاء ومنّة من الله عز وجل. هذا النموذج المعرفي لا يهدف إلى اكتناز المعرفة وتخزينها، بل إلى أن يكون القلب قناة صافية ووعاءً نقياً لمرور هذه المعارف وفيضانها الإلهي. يظهر الإمام الجنيد، الذي عُرف بلقب "سيد الطائفة" الصوفية، في هذه الرواية باعتباره محور هذا المدار، وتجسيداً حياً للمعرفة الموهوبة اللدنية. فمعرفته ليست نتاج استذكار لمعلومات محفوظة سابقة، بل هي عطاء متجدد ولحظي يفيض عليه من الغيب. ويتجلى ذلك بوضوح حين "يغترف من محتوى رباني يتدفق على قلبه" مباشرة. فعندما طُلب منه الإعادة للمرة الأولى، جاء بعبارة جديدة مغايرة، وعندما طُلب منه ذلك للمرة الثانية، جاء بعبارة ثالثة، "كأنما ينهل من بحر لا ينضب ولا ينتهي". هذا التصوير البليغ يوضح أن الجنيد ليس مالكاً للمعرفة بجهده الخاص، بل هو مستقبِلٌ لها، وأن قلبه أصبح مهبطاً لفيض لا ينقطع من الحكمة. وتأتي مقولة الجنيد الحاسمة لتكشف جوهر هذا المدار ومفتاح فهمه: "إن كنت أُجريه فأنا أمليه عليك". هذه الجملة ليست مجرد بيان في التواضع كما قد تبدو للوهلة الأولى، بل هي برهان منطقي دقيق ومحكم. فأداة الشرط "إن" في اللغة العربية كثيراً ما تفيد الشك في وقوع الشرط أو حتى استحالته في بعض السياقات. وبهذا، يبني الجنيد حجة مفادها: "على فرض أنني أنا مصدر هذا الكلام ومُجريه من ذاتي وبجهدي الخاص -وهو فرض مستبعد وغير واقعي- لكنت قادراً حتماً على إملائه عليك حرفياً بدقة تامة". وبما أن واقع الحال -أي عدم قدرته على التكرار الحرفي- يُبطل جواب الشرط (الإملاء)، فإن هذا يُبطل بالضرورة مقدمة الشرط (كونه هو المصدر). إنه بذلك ينفي فاعليته الذاتية ومصدرية عقله، ليُثبت أن المعرفة في هذا السياق هي فيض إلهي متجدد لا يخضع للضبط البشري. وهنا يتجلى الفارق النوعي العميق الذي أشار إليه التعليق في النص بين "صعود السلالم" الذي يمثل جهد ابن كُلاّب وسعيه الفكري، و"فتح الأبواب" الذي يمثل فضل الله ومنّته على الجنيد.

تحليل المواجهة: تجلّي الفروق بين المسار العقلي والمدار القلبي

لم يكن الحوار الذي دار بين ابن كُلاّب والإمام الجنيد مجرد مناظرة كلامية عابرة أو سجال فكري، بل كان لحظة كاشفة بامتياز تجلت فيها الفروق الجوهرية بين منهجين عميقين في المعرفة بشكل عملي ومباشر. ففي ساحة هذا اللقاء التاريخي، اصطدم منطق العقل المُحصِّل الذي يمثل ابن كُلاّب ببداهة القلب المتصل بالفيض الإلهي الذي يمثله الجنيد، مما أدى إلى انكشاف حدود الأول أمام فيض الثاني. ويمكن تلخيص الفروق الرئيسية التي أبرزتها هذه المواجهة المعرفية في النقاط التالية: مصدر المعرفة: عند ابن كُلاّب، المصدر هو العقل والجهد البشري الحثيث أو ما يُعرف بـ"التحصيل" المنظم. أما عند الجنيد، فالمصدر هو القلب والفيض الإلهي المباشر أو ما يُسمى بـ"التوصيل" الرباني. طبيعة المعرفة: معرفة ابن كُلاّب منظمة، محفوظة ومُقنّنة، أشبه بـ"عبارات مُعلّبة" تنتظر الاستدعاء. بينما معرفة الجنيد حية، متدفقة باستمرار، ومتجددة في كل لحظة، كأنها "بحر لا ينضب" ولا ينتهي. آلية العمل: مسار ابن كُلاّب هو "الصعود التدريجي" على درجات العلم ومراتبه، خطوة بخطوة. ومدار الجنيد هو "الفتح المباشر" للأبواب الإلهية وتلقي العطاء بلا واسطة. نتيجة المواجهة: انتهت المواجهة بإقرار ابن كُلاّب بالعجز عن الحفظ والإحاطة الشاملة لتلك المعرفة، بينما استمر الجنيد في التدفق المستمر للمعنى بعبارات مختلفة وغير قابلة للتكرار الحرفي. إن لحظة التحول الحاسمة في هذا اللقاء الفكري هي حين طلب ابن كُلاّب من الجنيد أن يملي عليه قوله مرة أخرى قائلاً: "ولكن أمله عليّ"، متبوعاً بإقراره الصريح بالعجز: "ليس يمكنني حفظ ما تقول". لا يجب أن يُقرأ هذا الاعتراف كتعبير عن هزيمة شخصية لمتكلم عظيم أمام صوفي، بل هو إدراك عميق من العقل لحدوده الطبيعية، وتسليم منه بوجود مستوى أعلى من الحقيقة لا يمكن الوصول إليه بنفس الأدوات المعتادة. لقد أدرك ابن كُلاّب أن مساره العقلي، على أهميته ورفعته وشأنه العظيم في بناء الفكر الإسلامي، يقف عاجزاً أمام بحر المعرفة اللدنية التي لا تُحفظ ولا تُقنّن، بل تُعاش وتُذاق وتُجرب بالقلب. وبهذا التسليم العظيم، أعادت هذه المواجهة ترتيب العلاقة بين العلم المكتسب والمعرفة الموهوبة، ووضعت كلاً منهما في مرتبته الصحيحة التي تليق به.

خاتمة: التكامل الضروري بين الجهد والمنّة في سبيل المعرفة الكلية

يكشف التحليل المقارن العميق للقاء ابن كُلاّب والإمام الجنيد عن تمييز جوهري في طبيعة المعرفة يمكن إيجازه في مفارقة بليغة: "المسار" هو سعي العقل البشري الحثيث للإحاطة بالحقيقة من الخارج، و"المدار" هو إحاطة الحقيقة بالقلب من الداخل. الأول يمثل طريقاً أفقياً يعتمد على التحصيل والجهد البشري المضني، بينما الثاني يمثل علاقة عمودية قائمة على التوصيل والمنّة الإلهية الخالصة. ومع ذلك، فإن النتيجة النهائية لهذا اللقاء التاريخي لا تدعو إلى إلغاء أحد الطريقين لصالح الآخر، بل إلى فهم عميق للعلاقة التكاملية الضرورية بينهما. إن التحصيل بالهمة، مهما علا شأنه وارتفعت مراتبه، يظل في حاجة ماسة إلى التوصيل بالمنّة. هذه الجملة لا تلغي قيمة السعي العقلي أو الجهد الفكري العظيم الذي يمثله ابن كُلاّب، بل تضعه في مرتبته الصحيحة والمناسبة. فالجهد البشري ضروري ولا غنى عنه في بناء المعرفة، لكنه ليس كافياً لوحده للوصول إلى الحقيقة الكلية. إنه يمثل تهيئة الأرض وإعداد الوعاء المعرفي، لكن الغيث الذي يملؤه ويُحييه وينمّيه لا يأتي إلا من السماء، بفيض إلهي. فكما أكد الإمام الجنيد نفسه على أهمية الأساس الشرعي المتين بقوله: "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة"، فإن هذا الأساس هو جزء لا يتجزأ من مسار التحصيل الذي لا غنى عنه في أي سعي معرفي سليم. في نهاية المطاف، لا يكمن الكمال المعرفي والروحي الحقيقي في الاختيار بين "المسار" و"المدار"، بل في إدراك أن المسار هو التهيئة الضرورية والاستعداد البشري العميق لاستقبال عطايا المدار وفيوضاته. فالسالك بالهمة والجهد لا يصل إلى غايته القصوى، ولا يذوق حلاوة المعرفة الحقة التي تثلج الصدر، إلا إذا تكرم عليه واهب الفضل ففُتحت له أبواب المنّة الإلهية، وانتقل من جهد التحصيل الذاتي إلى نعمة التوصيل الرباني.

تم التنسيق بواسطة أدوات محراب الكلمة

Abdennaceur
بواسطة : Abdennaceur
بسم الله الرحمن الرحيم مرحباً بكم في "محراب الكلمة"، مساحة للتأمل والتفكر في رحلة الإنسان وعلاقته بخالقه ونفسه والكون من حوله. أشارككم هنا خواطري التي تتنقل بين التأصيل والتفصيل، بين القواعد الكلية والتطبيقات الجزئية، مستلهماً من نور الوحي وهدي النبوة وتجارب الحياة. ستجدون في هذه المساحة مقالات فكرية تغوص في أعماق النفس البشرية، وخواطر أدبية تلامس شغاف القلوب، وروايات هادفة تحمل في طياتها دروساً وعبراً. أسعى من خلال هذه المدونة إلى تقديم محتوى يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين عمق الفكرة وجمال العبارة، بين الحكمة والقصة، بأسلوب يخاطب العقل والقلب معاً. أدعوكم لمشاركتي هذه الرحلة الفكرية والروحية، وأرحب بتعليقاتكم وإضافاتكم التي تثري المحتوى وتفتح آفاقاً جديدة للتفكر والتدبر. "في محراب الكلمة نلتقي، وبنور المعرفة نرتقي"
تعليقات