من الإيجاد إلى الإسعاد: رحلة روحية في آيات سورة الواقعة وعمق اليقين

من الإيجاد إلى الإسعاد: رحلة روحية في آيات سورة الواقعة وعمق اليقين

شارك المقال مع أصدقائك

نظرة في مرآة الوجود: عين الأجل وعين الأزل

دعنا نتوقف لحظة في محراب الكلمة، ونتأمل معًا آياتٍ عظيمةً من سورة الواقعة، آياتٌ تحمل في طياتها أسرارًا عميقةً عن وجودنا، وعن رحلتنا الروحية في هذه الحياة. يخاطبنا الحق جل وعلا بكلماتٍ تلامس شغاف القلب وتوقظ الروح إلى حقيقة اليقين والإيمان: نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59). في هذه الآيات، تتجلى حقيقةٌ كونيةٌ ثابتةٌ: أن للإنسان عينين لا مجرد عينين تبصران الظاهر، بل عينين تنظران إلى مستويين مختلفين من الوجود. هناك "عين الأجل"، تلك التي ترى عالم الأسباب والظواهر المادية التي نعيشها يوميًا. وحين ننظر بهذه العين، قد ننسب نعمة الإيجاد إلى الأسباب الظاهرة، كأن نقول إن الآباء هم من أوجدوا الأبناء، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: "أفرأيتم ما تمنون". ولكن، هناك "عين الأزل"، وهي النظرة الأعمق والأسبق، التي ترى ما وراء الأسباب، وتدرك أن الإيجاد الحقيقي لا يكون إلا لله وحده. إنها النظرة التي تستوعب قوله تعالى: "نحن خلقناكم فلولا تصدقون". هذه العين الأزلية هي التي تدرك أن كل وجود، وكل كينونة، إنما هي من فيض الخالق العظيم، وأن الأسباب ما هي إلا وسائط لتقديره سبحانه في نعم الله الكونية.

الأرواح قبل الأشباح: سر السعادة الحقيقية

إن نظرة الأزل تسبق نظرة الأجل، تمامًا كما أن الأرواح تسبق الأشباح في الوجود والمعرفة. فما تعرفه الأرواح في عالمها الأزلي، هو الذي تسعد به الأشباح في عالمها الآني. معرفة الأرواح هي معرفة التوحيد الخالص، معرفة الاتصال المباشر بالحق جل وعلا، بينما معرفة الأشباح هي معرفة التفكير والتحصيل، التي قد تضل إن لم تستنير بنور الأرواح. إن ما تعرفه الأرواح هو حقيقةٌ ثابتةٌ، منةٌ من الحق جل وعلا، وهي ربوبية الخالق لكل مخلوق، وأن نعمة الإيجاد لا يقدر عليها إلا هو سبحانه وتعالى. هذه المعرفة العميقة هي أساس السعادة الحقيقية، لأنها تربط الإنسان بمصدر كل خير وعطاء، وتجعله يدرك ضعفه وافتقاره المطلق إلى خالقه، ومن ثم يفتح له باب القوة والغنى المطلقين، وهي رحلة روحية نحو الإسعاد.

القرآن الكريم: ذكر للأرواح وعهدها الأول

لقد بدأ الحق جل وعلا في هذه الآيات العظيمة بنعمة الإيجاد، مخاطبًا بها عباده ليردهم إلى ذاكرتهم الروحية العميقة، إلى ذلك اليوم العظيم الذي شهدت فيه الأرواح على ربوبية خالقها: يوم "ألست بربكم قالوا بلى". ولهذا السبب، سمى الحق سبحانه وتعالى القرآن الكريم "ذكراً"، لأنه جاء ليذكر الأرواح بعهدها الأول، وبفطرتها السليمة التي أودعها الله فيها. تأمل معي هذا الترتيب الإلهي المحكم في سورة الرحمن، الذي يكشف لنا سر العلاقة بين الوحي والوجود: الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان. إن سر القرآن، وجوهره، هو التوحيد الخالص. والله سبحانه وتعالى علم الأرواح هذه الحقيقة السامية قبل أن يخلق الإنسان في صورته المادية. جاءت الإشارة واضحة المعالم: بدأ بـ "علم القرآن"، ثم "خلق الإنسان"، ثم "علمه البيان". إن خلق الإنسان مذكور هنا بين علمين عظيمين: علم الوحي الذي يتنزل من السماء، وعلم الوعي الذي يتجلى في فطرة الإنسان وإدراكه. هذا الترتيب ليس عشوائيًا، بل هو دليل على أن المعرفة الإلهية تسبق الوجود المادي، وأن البيان هو ثمرة الوعي الذي ينبع من الوحي، مما يعمق فهمنا لليقين والإيمان.

من الربوبية إلى الألوهية: رحلة الإقرار والعبودية

بعد أن أقر الإنسان بنعمة الإيجاد الأولى، وتذكر النشأة الأولى وربوبية خالقه، ينتقل السياق الرباني في آيات سورة الواقعة إلى مستوى آخر من التوحيد، مستوى يلامس واقع حياتنا اليومية: ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (62) أفرأيتم ما تحرثون (63). هنا، ننتقل من نعمة الإيجاد (الخلق من العدم) إلى نعم الإمداد التي لا غنى عنها لكل إنسان ليعيش ويستمر. إنها رحلة من الإقرار بالربوبية (الله هو الخالق والمدبر) إلى الإقرار بالألوهية والعبودية (الله هو المستحق للعبادة وحده). هذا الانتقال هو تصديق عملي لقوله عز وجل: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". فكل حركة في حياتنا، وكل رزق نجنيه، وكل نعمة نتقلب فيها، هي دليل على ألوهيته سبحانه، وتدعونا إلى عبادته وشكره، مكملة بذلك رحلة الإيجاد والإسعاد.

الاستفهام القرآني: إفهام وإلهام لليقين

السؤال القرآني: أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) في ظاهره استفهام، لكنه في حقيقته يحمل إفهامًا عميقًا وإلهامًا روحيًا. ليس طلبًا لجواب مباشر، بل توجيه تربوي يهدف إلى تعزيز اليقين والإيمان في القلوب: أولاً، الإفهام: ليفهم الإنسان حقيقة دوره كآخذ بالأسباب، وأن الفاعل الحقيقي والمدبر لكل شيء هو الله وحده. فمهما بذل الإنسان من جهد، ومهما أخذ بالأسباب، فإن النتائج بيد الله. وثانيًا، الإلهام: ليلهم القلب معنى التوكل الحقيقي على الله، والاعتماد عليه في كل شؤون الحياة، مع الأخذ بالأسباب. وتأتي الآية الكريمة لتؤكد قدرة الله المطلقة: لو نشاء لجعلناه حطامًا فظلتم تفكهون (65)، هذه الآية تذكرنا بقدرة الله المطلقة، وتعلمنا ضعفنا وفقرنا، وأن كل نعمة من نعم الله الكونية يمكن أن تزول متى شاء، مما يحثنا على الشكر والامتنان الدائم.

أعلى مراتب اليقين: مفتاح الإسعاد الدائم

إننا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67). هذان المقامان يمثلان أعلى مراتب اليقين في العجز والضعف البشري. الإقرار بهذه الحقيقة هو سر من أسرار الحياة وسبيل لنعمة الإسعاد الحقيقية. فمن أقر بعجزه أمام قدرة الله فتح له باب القدرة المطلقة، ومن اعترف بفقره الكامل أُغدق عليه الغنى الإلهي الذي لا ينفد. إن هذا الوعي العميق يمثل قمة التوحيد في القرآن، ويدفع الإنسان نحو الشعور بالغنى الروحي والاطمئنان، محققاً بذلك السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.

الماء والنار: آيات كونية ونعم الإمداد

ثم تنتقل آيات سورة الواقعة لتنقلنا إلى مستوى أعمق من التفكر في نعم الله الكونية من الإمداد، عبر ظاهرتين أساسيتين لحياتنا: الماء والنار. أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69). هذه الآيات تحمل دعوة للتفكر في نعمة الماء، سر استمرار الحياة على الأرض، وتأمل في عجز الإنسان عن إنزاله أو التحكم في دورته. ولو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون (70). وهو تذكير صريح بضرورة شكر الله على نعمه، وعدم أخذها كمسلمات، بل استشعارها في كل لحظة. أما النار، فهي رمزٌ للكمال ومثالٌ آخر على عظيم قدرة الخالق: أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73). فالنار تجمع بين التذكرة الروحية بقوة الله ونعيم الجنة وعذاب النار، وبين المتاع المادي للإنسان في دفئه وإضاءته، تجمع بين علم الوحي وعلم البيان، تنير العقول وتدفئ القلوب، مؤكدة على رحلة الإيجاد والإسعاد.

الغاية العظمى: التسبيح بيقين الشهود

بعد هذه الرحلة الروحية العميقة وتأمل آيات الإيجاد والإمداد، تصل سورة الواقعة إلى غايتها العظمى بقوله تعالى: فسبح باسم ربك العظيم (74). التسبيح هنا هو ثمرة اليقين والإيمان، تعبير قلب ناضج رآى عظمة الله في كل شيء حوله. إنه ليس مجرد ذكر باللسان، بل هو شهودٌ قلبيٌ لعظمة الخالق وتنزيهٌ له عن كل نقص. هذا التسبيح هو تجسيد حي لمفهوم التوحيد في القرآن، وهو أعلى مراتب السعادة الحقيقية التي يحققها الإنسان عندما يدرك مصدر وجوده ونعمه، ويدرك ضعفه أمام قدرة ربه العظيم.

الخلاصة المباركة: رحلة من التصديق إلى تحقيق الإسعاد

لقد كانت رحلتنا عبر آيات سورة الواقعة رحلة روحية مباركة، تكشف عن ثلاث مراحل مترابطة تقود الإنسان إلى السعادة الحقيقية واليقين: أولاً، الإيجاد: نعمة الوجود من العدم، والتي تبدأ بالوعي بأن الله هو الخالق وحده. ثانياً، الإمداد: نعم الاستمرار والبقاء، من الماء والنار والرزق، التي تؤكد ربوبيته وألوهيته في حياتنا اليومية. ثالثاً، الإسعاد: السعادة الحقيقية التي تنبع من معرفة المنعم والوعي بفضله، والإقرار بالعجز والفقر لله تعالى، مما يفتح أبواب الغنى والقوة اللامحدودة. إنها رحلة تبدأ بالتصديق بوجود الخالق، وتنتقل إلى الإيمان بألوهيته، وتنتهي بالعيش بشهود الحق في كل ذرة من الكون، محققين بذلك أعظم مراتب الإيجاد والإسعاد في الدنيا والآخرة. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تم التنسيق بواسطة أدوات محراب الكلمة

Abdennaceur
بواسطة : Abdennaceur
بسم الله الرحمن الرحيم مرحباً بكم في "محراب الكلمة"، مساحة للتأمل والتفكر في رحلة الإنسان وعلاقته بخالقه ونفسه والكون من حوله. أشارككم هنا خواطري التي تتنقل بين التأصيل والتفصيل، بين القواعد الكلية والتطبيقات الجزئية، مستلهماً من نور الوحي وهدي النبوة وتجارب الحياة. ستجدون في هذه المساحة مقالات فكرية تغوص في أعماق النفس البشرية، وخواطر أدبية تلامس شغاف القلوب، وروايات هادفة تحمل في طياتها دروساً وعبراً. أسعى من خلال هذه المدونة إلى تقديم محتوى يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين عمق الفكرة وجمال العبارة، بين الحكمة والقصة، بأسلوب يخاطب العقل والقلب معاً. أدعوكم لمشاركتي هذه الرحلة الفكرية والروحية، وأرحب بتعليقاتكم وإضافاتكم التي تثري المحتوى وتفتح آفاقاً جديدة للتفكر والتدبر. "في محراب الكلمة نلتقي، وبنور المعرفة نرتقي"
تعليقات