خواطر في مرآة الوجود: رحلة من البصر إلى البصيرة
"وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى"
لطالما كانت العين مرآة للضحك والبكاء معاً. إنها ليست مجرد جارحة للرؤية، بل عالم قائم بذاته، نافذة تطل منها الروح، وترجمان بأسرار القلب يشي. فكم مرة رأينا في عيون من نحب ما عجزت ألسنتهم عن قوله؟
العين تحكي قصصاً كاملة بلا كلمات فيها: فرحة طفل بريئة تشع براءة وعفوية، وحزن أم عميق يحمل كل معاني الحنان حتى في الألم، وحنين عاشق أبدي يحترق شوقاً ولا ينطفئ، وحكمة شيخ نقشتها تجارب السنين فصارت نوراً يضيء للآخرين. في كل نظرة حكاية، وفي كل دمعة معنى، وفي كل ابتسامة سر من أسرار الوجود.
نظرة ونظرة: بين العدسة والمرآة
هناك عين تنظر إلى الأشياء، وعين تنظر في الأشياء... وفرق شاسع بينهما. الأولى كالعدسة الضيقة ترصد التفاصيل دون أن تفهمها، تتعثر بالظواهر وتحكم على القشور، ترى الحجر ولا ترى الجبل، والقطرة ولا ترى البحر. أما الثانية فكالمرآة الواسعة تعكس الوجود بأسراره، إنها عين البصيرة التي لا تكتفي بالرؤية بل تسعى للفهم، فتغوص في أعماق الأشياء لتستخرج منها الحكمة. ترى في الحجر صلابة الأرض وثباتها، وفي القطرة سر الحياة ونعومتها.
والفرق بين النظرتين كالفرق بين من يقرأ الكلمات ومن يفهم المعاني، بين من يسمع الأصوات ومن يستمع للموسيقى، بين من يرى الألوان ومن يشهد الجمال.
من اللقمة إلى الكون: منهج قرآني في النظر
"فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ"
وهذا المنهج في توسيع النظر هو دعوة قرآنية مباشرة تأخذنا في رحلة عجيبة. تبدأ بعين البصر التي ترى الطعام أمامها، النعمة الجاهزة للاستهلاك، ولكنها لا تتوقف هنا، بل تفتح باب رحلة عظيمة لعين البصيرة. فتسبح في السماء لترى الماء وهو يُصَبّ بقدرة الخالق، وتطوف في الأرض لتشهدها وهي تُشَقِّ برحمته، وتراقب الزمن لترى الحب وهو ينبت بحكمته.
في نهاية هذه الرحلة الروحية، لا تعود ترى مجرد طعام، بل تشهد قصة الخلق والرحمة والغاية من وجودك: {مَتَاعًا لَّكُمْ}. فسبحان من دعانا لننظر إلى طعامنا لا لنرى ما نأكل فحسب، بل لنبصر كيف أُطعمنا، ولنفهم أن كل لقمة تحكي قصة حب إلهي لا ينتهي.
بوابة الماضي: حين تبصر العين الذكريات
العين ليست فقط نافذة على الحاضر، بل هي أيضاً بوابة سحرية للماضي. إنها خزان للذكريات لا تسجل الصورة فحسب، بل تربطها بالمشاعر والأصوات والروائح، فتعيد إلينا الزمن كاملاً بكل تفاصيله. فكم من نظرة عابرة إلى صورة قديمة أعادت إلينا قصة كاملة بوجدانها! البصر قد يتذكر ملامح وجه، لكن البصيرة تستحضر قصة كفاح وتضحية نقشتها السنون على ذلك الوجه، فترى في التجاعيد خريطة الحياة، وفي الشيب تاج الحكمة.
من العلم إلى المعرفة: رحلة الوعي والبصيرة
هذه الرحلة من السطح إلى العمق هي جوهر الانتقال من العلم إلى المعرفة. العلم يُبنى بالوعي والمجاهدة، يُنال بالسعي والبحث، وهو نور عام يهبط على كل من جد واجتهد. أما المعرفة فتوهب بالاستعداد والصفاء، تأتي بالاستقبال والمشاهدة، وهي نور خاص ينبثق من القلب حين يصفو، فيكشف له الحقائق كشفاً بلا واسطة.
وهنا ندرك أن نهاية العلم هي بداية المعرفة، وأن ما كان نهاية للعقل هو ذاته بوابة للقلب. فالعقل يجمع المعلومات، والقلب يفهم الحقائق. العقل يحلل، والقلب يدرك. العقل يفكر، والقلب يعرف.
الجمال في عين الرائي: شهود الصانع في صنعه
العين ليست مجرد مستقبل سلبي للجمال، بل هي شريك في صناعته. الجمال الحقيقي ليس في المنظر وحده، بل في النظرة أيضاً. عين العابد لا ترى غروب الشمس كظاهرة فيزيائية، بل تراه تسبيحاً صامتاً لعظمة الخالق، سيمفونية ألوان تعزف لحن الجلال والجمال. العقل قد يُحصي الألوان ويقيس الدرجات، لكن العين حين تتصل بالروح ترى "الجلال" في الجمال، وتشهد يد الصانع في كل تفصيل من تفاصيل الإبداع.
النظرة: بين الدعاء والسهم
ليست كل النظرات سواء، فالعين لا تستقبل الضوء فحسب، بل ترسل طاقة تنبع من أعماق القلب. هناك العين المحبة التي نظرتها دعاء صامت، تحمل البركة والخير لمن تقع عليه، كالمطر الرحيم ينزل على الأرض العطشى. وهناك عين الحاسد التي تنبع من قلب مريض يرى نعمة غيره نقصاً في حقه، نظرتها سهم مسموم يكشف عن ظلمة قلب صاحبها.
فالعين السليمة مرآة صافية تعكس النور وتنشره، والعين المريضة ثقب أسود يبتلع كل جميل ولا يرد إلا الظلام. والعجيب أن الناظر والمنظور إليه كلاهما يتأثر بطبيعة النظرة، فالحب يولد الحب، والحسد يولد الشقاء.
حين يفرغ القلب: بصيرة الإيمان
"وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا..."
حين غاب عن عينها "قرة عينها"، أصبح فؤادها فارغاً. لكن الله لم يربط على عينها، بل على قلبها. والحكمة في ذلك عميقة: فالخسارة الحقيقية ليست في العين التي لا ترى، بل في القلب الذي لا يحتمل. العين قد تفقد البصر، لكن القلب إذا فقد الصبر فقد كل شيء.
ومن هنا نعلم أن العين ترى الظاهر، والإيمان يبصر المغيب. العين ترى الفراق، والإيمان يرى اللقاء. العين ترى الامتحان، والإيمان يرى الحكمة. العين ترى النهاية، والإيمان يرى البداية.
خاتمة: منحة البصيرة
ندرك في النهاية أن العين ليست مجرد عدسة تلتقط الصور، بل هي رحلة إدراك تبدأ بالنظر وتنتهي بالبصيرة. من خلالها نرى الدنيا، ولكننا قبل كل ذلك وفوق كل ذلك نسعى لأن نبصر الحقيقة. فالرؤية نعمة، والبصيرة منحة، والحكمة غاية.
دعاء
اللهم ارزقنا عيوناً تبصر الحق كما هو ولا تفتنها زخارف الباطل، وطهر قلوبنا من الغل والحسد لتكون نظراتنا برداً وسلاماً على خلقك. اللهم ارزقنا علماً نافعاً يقودنا إلى معرفتك، وقلوباً منيرة، وبصائر صافية، ونوراً على نور. واجعلنا ممن يرون بنورك، فيسلكون سبيل الحق والحقيقة.
والله أعلم